دمشق-سانا
تظهر المواقع الأثرية المكتشفة في سورية المؤرخة في عصور ما قبل التاريخ عظمة الحضارة السورية وأهمية دراسة المواقع والأوابد واللقى الأثرية السورية في توثيق أحداث الماضي وتدوين سطور تاريخ الحضارة الإنسانية ومراحل تطورها حيث يشكل موقع أبي هريرة الأثري أحد أهم المواقع الأثرية الذي يوثق ظهور القرى النطوفية حول نهر الفرات.
ويقع التل الأثري حسب ما قال المؤرخ الدكتور محمود السيد قارئ النقوش الكتابية القديمة بالمديرية العامة للآثار والمتاحف لـ سانا في منطقة الجزيرة الفراتية على الضفة اليمنى لنهر الفرات على الطرف الشمالي لقرية أبي هريرة ويعتبر أهم موقع أثري مؤرخ في العصر الحجري الوسيط في سورية ويوثق مرحلة الانتقال من مجتمعات التنقل والصيد والالتقاط وترك السكن في الكهوف والمغاور الطبيعية إلى مجتمعات الاستقرار والزراعة.
ويثبت التل الأثري الذي يعد من أهم المواقع المؤرخة بالعصر الحجري الوسيط في سورية أن الإنسان الذي سكن تلك المنطقة استقر فيها وعمل على تدجين الحيوانات وتمكن من إشادة البيوت وتكوين القرى وأن موقع أبي هريرة من أوائل المواقع في سورية التي عرفت الزراعة واستخدمت الفخار.
ويشير السيد إلى أنه اكتشف في المشرق العربي القديم قرى نطوفية عديدة تباينت في حجومها ومعطياتها ولكنها تشترك بسمات عامة تجمع بينها كالبناء والفنون والأواني والأدوات والشعائر الدينية كما هو الحال في تل المريبط وتل أبي هريرة في سورية وأريحا وعين الملاحة في فلسطين، ووادي الحمة والبيضا في الأردن وحلوان في مصر.
ويوضح المؤرخ السيد أن مخطط التل شبه منحرف شديد الانحدار نحو الغرب باتجاه سرير الوادي وبدأ الاستيطان البشري في الموقع بقسمه الشمالي منذ أواخر العصر الحجري الوسيط نحو العام 11500 قبل الميلاد كقرية تمثل قرى الصيادين الأولى ولا تتجاوز مساحتها الهكتار الواحد مكونة من مساكن بسيطة متقنة الصنع أشكالها دائرية داخل حفرة مستديرة مغروسة قليلا في الأرض أساساتها من الحجر، وجدرانها من الطين وتم سقفها بالأغصان ونبات البوص ودعمت بأعمدة خشبية “سيباط” وأرضيتها مرصوفة بالحجارة وفي وسطها موقد وبقربها مخازن للحبوب ويمثل الرماد السميك ورواسب الأرض الرملية دليلا على الإشغال السكني للموقع لمدة طويلة.
وتؤكد اللقى الأثرية المكتشفة في الموقع المؤرخة بالعصر الحجري الوسيط وفقا للمؤرخ السيد غنى هذه الفترة بالأدوات الصوانية المتطورة من مطارق ومقاشط متنوعة ورحى ومدقات وأدوات مصنوعة من العظام كالمثاقب والإبر، كما عثر في الموقع على خرز للزينة، وأدوات للغزل، وبعض الألياف استخدمت في صناعة البسط والسلال حيث توثق البقايا العظمية والنباتية المكتشفة في الموقع قيام السكان باصطياد الغزلان والسمك وجمع الذرة والشعير البري علما أنه اكتشف في الموقع أكثر من 500 بذرة تعود لأكثر من 150 نوعا من أنواع النباتات الصالحة للطعام وبذور القمح ونوى بذور وثمار الفستق والجوز وتمر الميس (الدردار) والمشمش ونبات البرقوق بزهرته البيضاء.
ولفت السيد إلى أن الموقع شهد انقطاعا في تسلسل الاستيطان البشري بين العصر الحجري الوسيط والعصر الحجري الحديث وفي الألف السابع قبل الميلاد عاد الاستيطان واستمر حتى الألف السادس قبل الميلاد ولم يسكن الموقع بعد هذه الفترة مبينا أنه في العصر الحجري الحديث أقيمت أولى المنشآت السكنية في الجزء الجنوبي من الموقع وتوسعت القرية وغدت في أواخر الألف السابع قبل الميلاد من أكبر القرى وغطت كامل التل وقدرت مساحتها بنحو 12 هكتاراً وازدهرت الحياة فيها بفضل وقوع القرية في موقع استراتيجي مهم يطل من جهة الجنوب على سهل زراعي واسع ذي تربة خصبة ويوجد في أسفل القرية سهل فيضان الفرات الوافر المياه، ويوجد أيضا في أعلى ظهر الوادي أرض غنية جدا بالأعشاب.
ويوضح السيد أن الأبنية المؤرخة بالعصر الحجري الحديث تتميز بحجمها الكبير وغرفها الواسعة واستقامة أبعادها، بنيت من الطين المجفف المضغوط، ويتألف المنزل الواحد من عدة غرف تتسم الجدران فيها بقلة السماكة ما يوحي بأنها كانت أبنية مؤلفة على الأرجح من طابق واحد مضيفا أنه اكتشف في بعض البيوت جدران يبلغ ارتفاعها 7ر1 متر وكان لبعض البيوت بهو مستطيل يفصل بين غرفتين وللباب عضادة مرتفعة وساكف من اللبن كما اكتشف في بعض الأبنية مستودعات أرضية وفتحات في الجدران استخدمت في التخزين وقد كسيت الأرضيات والأجزاء السفلية من الجدران بطبقة من الجص طليت أحيانا باللون الأسود أو الأحمر الملمع وهناك أرضية واحدة حمراء لامعة يحيط بها إطار باللون الأسود وفي بعض الغرف مصطبة قائمة في إحدى الزوايا كسيت بطبقة من الجص وزود بعضها بمواقد للتدفئة وتدل الدروب الضيقة التي تفصل بين البيوت على ازدحام القرية بالسكان.
ويشير السيد إلى أنه ازدهرت بالعصر الحجري الحديث في الموقع صناعة الأدوات الحجرية من حجر الصوان والحجر البركاني المستورد من هضبة الأناضول فصنعت السهام والمكاشط والمثاقب وصنع معظمها بواسطة الحك أو التقشير أو الضغط واستخدمت أيضا الصخور في صناعة المحكات والفؤوس والأزاميل وبناء بعض الأبنية من حجر الكلس الملون والجبس الشفاف كما صنعت الرحى والمدقات من البازلت المنخرب الخشن والكلس لطحن الحبوب وتؤرخ بنحو 7000 قبل الميلاد واستخدمت العظام لصنع المثاقب والإبر والخرز كما صنعت المثاقب والإبر والخرز من الحجر الأخضر والكوارتز أهمها مجموعة صنعت على شكل فراشات وجدت في القبور ما يدل على أنها صنعت لأغراض جنائزية كذلك اكتشف في الموقع بعض الخرز وعدد من التماثيل المصنوعة من الغضار المشوي ما زالت الخيوط عالقة بثقوبها وتمتاز الأواني الفخارية المكتشفة في موقع تل أبي هريرة والمؤرخة بالعصر الحجري الحديث بأنها مطلية بألوان بنية وسوداء يخالطها القش وبعضها زخرف بطلاء أحمر.
واعتمد سكان الموقع في العصر الحجري الحديث حسب السيد على زراعة القمح والشعير والذرة والعدس واللوبياء على المنحدر وعلى ضفاف الفرات وجمع ثمار العنب والكمون البرية وتربية أنواع عديدة من الحيوانات كالماعز والأغنام وصيد الغزلان ومارسوا بعض الصناعات اليدوية مثل، صنع السلال من القصب النهري، وصناعة السجاد والغزل، بدليل العثور في الموقع على مجموعة من مبارم الغزل الحجرية.
وأكد المؤرخ السيد أن سكان الموقع دفنوا موتاهم في العصر الحجري الحديث تحت أرضية غرفهم وفي باحات البيوت بأوضاع ممددة أو مثنية دون توجيه خاص وبشكل فردي أو جماعي واهتم سكان الموقع بشكل خاص بجماجم الموتى، فقاموا في بعض الحالات بفصل الرؤوس ودفنها منفردة في داخل بيوت السكن، وقاموا في أحيان أخرى بدفن عدة رؤوس مع هيكل واحد وأحيانا دفنت بعضها ملفوفة بعد دهنها بالمغرة الحمراء ما يؤكد وجود نوع من أنواع العبادة الجنائزية الأمر الذي يدل على أنهم قدسوا جماجم الموتى واعتبروها تجسيداً لأمواتهم في بيوت أحيائهم معبرين عن إيمانهم بحياة أخرى بعد الموت.
تابعوا آخر الأخبار السياسية والميدانيـة عبر تطبيق تيلغرام على الهواتف الذكية عبر الرابط :
https://telegram.me/SyrianArabNewsAgency
تابعونا عبر تطبيق واتس أب :
عبر إرسال كلمة اشتراك على الرقم / 0940777186/ بعد تخزينه باسم سانا أو (SANA).
تابعوا صفحتنا على موقع (VK) للتواصل الاجتماعي على الرابط: